الجمعة، 27 أبريل 2012

بين أمواج المعصية/2 .. ثري ولكن !

كنت معدما فقيرا ، أعيش على بساط البساطة ، وأتقلب بين جنباته ..
انتقل إلى رحمة  الله - أو سخط منه - أحد الأثرياء القريبين جدا مني ، ولحسن طالعي - ولربما لسوءه -  لم يجدوا له وارثا غيري ، فأدهشني الخبر ، فانغلقت عيناي ، وكذا أذناي ، وما فتحت غير يداي تستقبلان ما استجد من أمري ..
 فكأنما أتوا بشاحنة بذور فبذروها في أرض خصبة ، حيث نما ذلك المال نموا متسارعا  ، حتى بدوت وكأن لا غني غيري في البلدة تحت سقف ثراء يمكن أن يوسم بأنه ثروة ..
فدخلت السعادة – أو لربما ظننت أني فعلتها – من أوسع أبوابها ، فما أسعد من يد ما تريده تجده إلا ما قل وندر ، ومن ينشد الراحة إن لم ينشدها ثري ملك ثروة تقلبه في نعيم بان وظهر ..
مهلا .. مهلا .. وأهلا وسهلا بما سيأتي ..
فلا زلت أكتب قصتي  بقلم قطع من شجرة هي خارج بستاني ، ومداد ذهبي ليس من ثروتي ، ليخطا مزيجا أشبه ما يكون بكلام سكران ، أو عابث ثرثار ، يهذي من خارج قلبه، أو قل – إن شئت تقريب المثال – كلام أحدهم لبسه جان ، فصار يتكلم بلسانه ..
لا زلت أكتبها من خارج سويداء قلبي ، فلست هناك ، وما سطرته ما هي إلا أفكار أناس ، وآراء أناس ، واسأل مجربا ..
أعني السعادة ، وهل ثمة من لا ينشدها ..
كنت أعتقد أني غمست فيها غمسا ، ولا سبيل إلى إخراجي منها ، إلا بقوة رهيبة هي أقوى من لهف الناس بها ، وسعيهم خلفها ..
غير أن الاحساس الحقيقي – وأنا بذلك زعيم – ليس كما ظننت ، وربما تظن ..
كنت أعيش حالة من ثراء الفقر ، وغنى الإفلاس إن صح التعبير ، فالكف في شبع ، والقلب خمصان ، إذ الكف لم يسق إلى القلب المسكين شيئا مما يسوقه للمظهر الذي يطالع الناس ، فيرددون وينشدون أحلى قصائد الوصف بل الغزل ، ويترنمون بعشق ما تحمل يداي ، ويتمنى بعضهم الحصول ولو على شيء من رائحته ..
وما دروا وما فقهوا ، أني أصبحت أغبط الفقراء ، بل أحسد نفسي الحسد المحرم ، وأتمنى زوال نعمتي بصوت ينبع من سويداء قلبي ، فما يضيرني لو افتقرت ، ما دمت في أوج ثرائي أحس أني من أفقر الفقراء ، وأقربهم إلى الإفلاس ، على الأقل سأعيش في واقعية أخرج بها من الازدواجية الغريبة التي أعيشها ، والحالة العجيبة التي وصلت إليها ، حيث شيء ولا شيء في آن واحد ، ووجود وعدم في مكان واحد ، وثراء وإفلاس في رجل واحد ..
حيث موجة رهيبة من القلق تجتاحني كل ليلة ، بعضها من خشية غور الينبوع الدفاق ، وزوال ثروة ملأت سمعتها الآفاق ، وبعضها من خشية المنافسين ، وما يخططون ، وما يدبرون ويكيدون ويتآمرون ، وإن كانوا يسعون لعيش أفضل لهم وعيالهم  فلا بد من اقتحام قلقي معسكرهم ، وغزوهم في عقر دارهم ، وإلا كيف أحس بقلق الثروة ، وكيف أتلذذ – ولا لذة -  بمخاوفها .
لا تعجل ، وقل أهلا لما سيأتي ..
كنت أتململ في فراشي ، حتى أضطر أحيانا لتناول حبة منوم ، تغمض أجفاني ، ليتشكل القلق في صورة جديدة ، أحلام تترجم القلق في مشاهد خيالية ، أشبه ما تكون بأفلام الكرتون .
أنام على فراش خوف الفقر ، وأصحو أتقلب في  أحضان فقر حقيقي ..
ولدي فلان يريد كذا ، وابنتي فلانة تطمح لكذا ، وإخال زوجتي فلانة تخطط لاستنزاف ثروتي الهائلة ، والكل يحسدني ، ويسعى لفقري ، ولو أني يا جماعة فقير دون أن تدرون .
أشعر بأني فقير كلما أردت أن أشتري شيئا باهظا فلم تسعفني ثروتي ، أو لم يسمح قلقي ..
أشعر أني معدم كلما رأيت أو سمعت عمن هو أغنى مني  ..
أشعر أني مفلس كلما سبقني فلان أو فلان في شراء أسهم أو بضاعة ..
الكل يريد أن يحتل السوق ، ويحتكر الأرزاق ، والجميع يحاول إفلاسي ..
في ذا الفلك أدور ، وفي قيعان ووديان ذاك الكوكب أعيش ..
وبينما أنا كذلك ، خرجت يوما في سيارتي المترفة وقمت بتشغيل شريط أهداه لي أحدهم ، فإذا بالمتكلم يعقب بعد كلام طويل عن الدنيا بحديث عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال فيما معناه : " من كانت الدنيا أكبر همه جعل الله فقره بين عينيه " ..
فأدهشني ما سمعت ، حيث صادف واقعا أعيشه ، ولا أدرك كنهه وماهيته ، وكنت متعجبا أيما عجب ، ومستنكرا وجود ثراء وفقر في آن واحد ، فأدركت الحقيقة ..
فكيف أرتاح بمالي ، وأنا أعرف جيدا كيف أحسب الأرباح ريالا ريالا ، ولا أعرف كيف أحسب الزكاة ؟!!
 وكيف أسعد به ، ويدي لم تمتد يوما إلا ما ندر لفقير أو محتاج أو طالب مساعدة ، ولطالما نهرت بعضهم ، وكذبت على آخرين ، واعتذرت وأنا الواجد الملي عن عدم قدرتي المالية ؟!
كم هجرت جماعات المسلمين متشاغلا بتجاراتي ، ومنهمكا في حساباتي ، والله يقول وذروا البيع ، وأنا أقول : وذروا الصلاة !!
لا أكاد أسلم من صلاة خاشعة للمال والمادة ، حتى أخر ساجدا لشهوة جنس أو بطن أو متعة من نوع آخر ، وهل أعي غير لغة المتعة ، ناشدا السعادة بعد أن فقدت طريقها ..
وأخيرا أدركت الحقيقة ، وعلمت أن الغنى في القلب ، والغني هو المؤمن بربه ، المحافظ على دينه ، امتلأت يداه أم قلت ذات يمينه ، هو في الحالين غني ، والبائس الفقير من افتقر لتقوى ربه ..
وعندما سلكت الدرب انقشعت سحابة خوف الفقر ، وكيف يعيش المؤمن في قلق وهو يعلم أن واهبه الغني المقتدر ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق