الجمعة، 27 أبريل 2012

بين أمواج المعصية /1 ... ارتقيت ولكن !

ترقيت في سلم الوظائف درجة تلو الأخرى ، لا أكاد أحط قدمي في إحداهن ، حتى أترقب الأخرى ، وقلما يخونني ظني في دنو ذلك ، حتى بلغت منصبا له وزنه وحجمه الكبيرين ..
فكان من شأن الناس المعهود أن يعظموا ذوي الجاه والوظائف المرتفعة ، يرسمون لهم في نفوسهم صورة لهم فيها من الحجم ما لا يتقارب مع الحجم الطبيعي بحال !!
فاعتاد الناس على أن هؤلاء يزارون ولا يزورون ، يسلم عليهم وقد لا يسلمون[1] ، يعذرون فيما لا يعذر فيه غيرهم ، المحتقر من حقروه ، والرفيع من أكرموه وقربوه ، وكذا تسير السفينة بالعقول ..
وقد دخلت المضمار منذ زمن ، واقتحمت الميدان باهتمامي بعملي ، وحسن علاقاتي الطيبة مع صناع القرار ، بهمي وهمتي واهتمامي ، وربما بهيماني بالسلطة ، وعشقي للرياسة ..
فوجدت من الناس ما وجد السابقون ، فاستقبلت وبش لي وأكرمت واحترمت ووقرت ورفعت فوق الرؤوس بناء على نيات ودواع تكاد تكون متشابهة ، فعشت بين عظمتين ، عظمة الوظيفة العالية ، وعظمة الجاه الرفيع والتوقير الكريم ..

ولكن ..
ابتليت بحالة غريبة جدا – في نظره طبعا وإلا فهي ثمرة وضريبة طبيعية – فكنت إذا تجاهلني شخص من العامة أحس كأن الناس قاطبة لا تسلم علي ، وإن أعرض عني فلان فكأنما أعرض الجميع ، وإن لم يوقرني أحدهم التوقير المعهود فكأني لم أر توقيرا قط ، أو تلكأ شخص في تنفيذ أوامري أو تحقيق طلباتي ..
فأصبحت كمدين يملك مئات وعليه ملايين ، إن نظرت إلى كفي انفرجت أساريري قليلا ، وإن تذكرت ذل ديني وعظم ما علي فكأن خنجرا اخترق فؤادي !!
حاولت طويلا أن أتجاهل الشعور ، وأغالب ما يتلجلج في الصدر ، ولكن دون جدوى ، فيروسات المرض في تكاثر ، ولا مناعة ولا حصانة ، تهالكت خطوط الدفاع ، واستسلم الواقفون على الثغور ،  حتى أصبحت لا أدري أنا الرفيع أم ذاك الذي لم يأبه لي ولم يسلم علي ، فأصبحت أفتش عن عزة سمعت أن من سبقوني تقلبوا بين أحضانها ، ورفعة رفلوا في ثيابها ، ولكن أين هي ؟
ذا هو المنصب موجود ، وهاهم المتزلفون والمتملقون ، وذي قافلة الموقرين ، فمالي أقاسي الذل وقد لبست أبهى حلل العز والسؤدد ، ومالي أعانيه وسط جيش مدجج بأرقى أسلحة الرفعة والسمو ؟!!!!
أحس أني أعيش عالما من الذل رغم ما حباني الله من الجاه والسؤدد ، وأتقلب يوميا في فراش من الهوان وأنا الرفيع العالي !!
أحس بالذل أمام من هم دوني إن توانوا قليلا في خدمتي ، أو رأيت  أو ظننت فيهم طمعا في منصبي وجاهي ، وأمام من هم فوقي وأنا أراهم يأتون مختالين بوظائفهم ، مغرورين بجاههم ، يتعالون علي بمناصبهم الرفيعة ..[2]
أشعر بذل يعتلج في صدري إن عطلتني إشارة مرور عن طريقي ، أو تلكأ مفتاح السيارة في فتح بابها ، أو حتى إن عاندني درج عند فتحه أو غلقه ، أو قلم لم يشأ أن يطع أوامري الرفيعة فيجف مداده أو ينكسر بريه !!
أتقلب في كومة من الذل وأنا أرفع طلبا أو حتى تقرير لمسؤول أرفع مني ..
أتلفع بالذل إن قدمت اقتراحا ومخططا لكبير بيده قبوله ورفضه ، أو قدمه صغير أرى أنه يتعالى ويتدخل فيما لا يخصه !!
أشعر أني غرقت في بحر من الذل فما العلة وما الحل ؟
إن لم تكن العزة والرفعة لمن بلغ مقامي ، وارتقى ما ارتقيت ، ووصل لما وصلت فلمن ؟
إن لم يعشها من يتلقاه الناس بالتوقير ، ويقدمونه على الصغير وذي الشيبة الكبير ، فمن ؟

يا ذا المنصب الكبير والمقام الرفيع ، ألم يعلمك الدهر ويؤدبك الزمن بعد ..
أما تعرف للعزة دربا غير ما تروم ؟
أما أدركت بعد خوارم عزتك ، ومنغصات سؤددك ؟
إن لم تكن تعلم فاعلم ..
أن كل ما أنت عليه قشور عز ، تطير ما حكها ظفر طفل ، وحلي عجوز بلغت من الكبر عتيا ، لا يكاد يسلب العين لمعان بريقه حتى ينقلب البصر خاسئا وهو حسير ..
لقد فارقت خطة العز ، وجانبت سبيل الرفعة ..
العزة – أيها الكريم – لثلاثة ما أفلحت المناصب على طول الدهر أن تضيف لهم رابعا  : " ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين " ..
فإن كنت تنشدها ف " من كان يريد العزة فلله العزة جميعا " ..
سبيلها سبيل المؤمنين ، ودربها التقوى ، ولا ينعم بها غيرهم ..
فمن سلك الدرب متى أوتي جاها ، صارت الدرع لجاهه ، والحافظ الأمين لعزته ، فعاش في رفعة يعيشها قلبه ، ويحس بها فؤاده في كل لحظة ..
متى حاول أحدهم أن يرميه في بحر الذل ، جعل من إيمانه بالله وثقته به مركبا يمخر عباب البحر بكل أمان ، يسير والعزة صاحبه ، والكرامة حاديه .
أما تذكر أيام صباك ومراهقتك ، يوم كنت ترتاد المساجد بخطى عجلة خلف أبيك الراحل ، وتؤدي حقوق الله ، وتراعي ما فرض ، وتزدجر عما نهى وزجر ؟
كنت يومها بلا جاه ولا سؤدد ظاهر ، ولكن العزة تمشي حيث مشيت ، ولا تأنف من الاعتجال خلف خطاك الصغيرة ، لم يخامرك شعور بذل ملك قلبك وسط جيش من أسباب العزة والمناصب والمعالي ..
اسأل فلانا وقلانا ممن يعتلون كبار المناصب ممن عرف درب التقوى ، هل ذلهم المنصب أو أهانتهم الوظيفة العالية ؟ تجد الجواب محلى ب " كلا وحاشا " ، بل زادتهم مناصبهم رفعة وعلوا ، متى ما أعلوا أمر الله ..
وهي قاعدة قلما تجد لها شواذ : أعز أمر الله يعزك الله ..


[1] للعلم .. لا أعني الانتقاص من أصحاب المناصب ، إنما نتحدث هنا عن نظرة الناس إلى حقوق الفئة وواجباتها
[2] كذا هو شعور صاحبنا ، لا الواقع والحقيقة .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق