السبت، 26 مارس 2011

اختر طريقك (2)

اتفقنا – أخي القارئ في الحلقة الماضية أن نتباحث كيفية اختيار الطريق فهات يدك ..
بنظرة سريعة على مختلف شرائح المجتمع ، نجد أمامنا أربعة أصناف من البشر ، تسير في أربع طرق مختلفة ، لكل طريق شعب في البداية ، لا تلبث أن تتحد في عيني العاقل من خلال النظر في نهاية المطاف ، والتأمل في النتائج والثمرات ..
الشريحة الأولى : صنف انطمست بصيرته ، واسود قلبه ، وأظلم فكره ، فرأى نيل الشهوات ، والحصول على الملذات بأي وسيلة غاية الغايات ، ومنتهى الأهداف ، فأتخذ من شهواته مسلكا وغاية ، فانكب عليها طالبا مرضاتها ، فهو مستعد دوما للسجود لأقرب صنم من الشهوات يجده أمامه ، حلت الشهوة أم حرمت ، وطابت الملذة أم خاب مسعى صاحبها ، فالخير كل الخير عنده أن يشبع لذة ويروي ظمأ شهوة ، وهيهات هيهات يا من لا يعقل ، فضاعت سنون حياته دون تحقيق تقدم يذكر في سلم النجاح ، بعد أن أنهكت الشهوات جسمه ، وأتعبت عقله وفكره ، وأكلت الأخضر واليابس من حاله وماله ..
ويندرج تحت هذا الصنف أصناف تجدهم بين أروقة المجتمع ، تتنوع أهدافهم بتنوع الشهوات التي يسعون إلى تحقيقها في المقام الأول ، فمنهم من يعبد المال ، يجمعه من حله وحرامه ، ويتشبث به بكلتي يديه ورجليه ، ومنهم من فتنه حب الجاه ، فاتخذه هدفه الأول ، فحياته البحث عن الأضواء ، واللهاث خلف الشهرة ، وسعيه الدؤوب الحصول على الرئاسة والمنصب ، متجاوزا كافة الحدود الشرعية والاجتماعية والعرفية ، ومنهم من أنشبت الشهوة الجنسية مخالبها في عنقه فجرته إلى آفات نفسية وجسمية رزأ بحملها كاهله ، وآخر فتح عين قلبه يوم فتحها على البنايات والقصور فأكب على أربع ما عجزت الرجلان على الركض خلف الوصول إلى  تشييد أفخمها ، ومنافسة أربابها ، ومنهم من استذله بطنه ، واسترقته شهوته ، فيفتح فمه تارة للقمة ، ويفتحه أخرى لاهثا في البحث عن أخرى ، فتخنقه اللقم ، ويغص حلقه بما حرم منها ، وربما قتله نهمه قبل أجله ، وإن بقي حيا في الصورة ..
فكم رثى الدهر حال أمثال هؤلاء ، وكم تباكت الدنيا على موتاهم ..
الشريحة الثانية : صنف رغب في الحياة الدنيا ، وفتنه بهرجها وزينتها ، غير أنه توقى ما حرم من لذائذها ومتعها ، مقتصرا على الحل منها ، فلم تكن له الشهوات الغاية الأولى له ، وإنما اشتغل كثيرا بالمباح ، دون أن ينسى هدف التزود للآخرة ، وأداء الحقوق المفروضة عليه ، فهو يحاول الجمع بين الضرتين ، ولكن مع الأسف يقدم الأولى أحيانا عند التعارض .
الشريحة الثالثة : صنف جعل الدار الآخرة نصب عينيه ، فهي هدفه الأول ، وغايته العظمى ، فيسخر إمكانياته وقدراته للفوز بها ، دون أن ينسى نصيبه من الدنيا .
الشريحة الرابعة : صنف يعيش بلا غاية ولا هدف معين ، وإنما يتأرجح بين المسارات ، فتنشط همته لأمر قد تخبو عنده في موقف آخر أو أمام آخرين من الناس ، وهكذا ..
أخي الكريم
هذه أصناف الناس على متن سفينتنا ، وربما ثمة أصناف أخرى ، وحتما ليس جميع هؤلاء مصيبون ، فهم يسيرون في دروب متباينة كما ترى ..
وأظنك تتفق معي أن الدرب القويمة التي تكفل لصاحبها السعادة والراحة والطمأنينة ، يجب أن تبنى على أسس قويمة ، وتصفى من العوائق والعوالق تحت شروط بينة ، من أهمها :
أولا : يجب أن تكون الدرب واضحة
وذلك لأن الدرب غير الواضحة ، السائر فيها كأعمى خرج وحده ليلا في ظلام حالك في مكان هو غريب عنه ، ليضيف إلى عمى بصره ظلمة الطريق وغربة المكان ..
وبالنظر في ما ذكرنا من الدروب نجد أن كلها تتفق في عدم الوضوح ، خلا درب واحد ،فإن منابع طرق الشهوات مهما تنوعت وتعددت ، فإنها تصب في النهاية في مصبين ، إرضاء النفس وإرضاء الناس ، وكلاهما درب غير واضح ، فالنفس لا تشبع أبدا ، وكل يوم تخرج بشهوة ، وفي كل ساعة تطلع برغبة جديدة ، تنحرف بصاحبها أحيانا ناحية الشرق ، ثم تنعطف به بسرعة رهيبة نحو الغرب ، ثم تمسكه كخيط ماكينة الخياطة تجرجره شمالا وجنوبا  ، لذلك لا يمكن تحديدها ومعرفة معالمها ..
وكذا إرضاء الناس غاية لا تدرك ، فما يرضي فلان قد يغضب علان ، وما يقتنع به زيد اليوم قد يعارضه غدا ، فراكب درب إرضاء الناس طفل ركب أرجوحة تحركه لأعلى وأسفل ، فيرى السماء لحظة ليرى التراب بعدها في لحظة أخرى ، وقد يرى شجرا وبنايات فيما بينهن من لحيظات ، فتلك درب متأرجحة غامضة غموض الدرب الأولى بل أشد ..
ثانيا : يجب أن نتمتع بالطمأنينة أثناء السير في الدرب
ولا أتصور عاقلا يبغي درب شقاء وخوف وفزع وقلق ليمشي فيه إلا إذا كان مضطرا انقطعت به السبل ، ولا يجد محيصا عن هذه الدرب ..
وكما تعلم أخي فإن سالك درب الشهوات ، لا يعرف للطمأنينة رأسا ولا رجلا ، فهو دوما خائف من عدم الحصول على الشهوة الفلانية أو عدم رضا فلان ، وقلق على ما حصل عليه من ماديات ، وما حققه من مصالح عاجلة مع زيد أو عمرو ، وجل من تسارع الأيام دون تحقيق الآمال ، تحيط به السباع والوحوش من كل جهة ، كل تقطر أنيابه ومخالبه وأظافره من دماء من سبقوه ، وما أكثر سباع الشهوات المفترسة ، فسبع الفقر يحوم ، وسبع خيانة الزميلات يزمجر ، وسبع زوال المنصب يتربص ، ووحش غدر المؤنسين ورفقاء السوء يهدد ويتوعد ..
ثالثا : لا بد أن تحقق الدرب الراحة
فإن الراحة أول مطلوب ، وأولى غايات مؤمل ..
وطريق الرغبة الحيوانية أو الرغبة السبعية لا يشبع صاحبها أبدا ، وكيف يرتاح من لا يشبع ؟
فإن من طلب المزيد أرهق الحال وأهلك المال ، وغابت راحته في غياهب سجون الشهوات والملذات ، إنه حقا يبيع راحته بثمن بخس ، لذة لحظة أو لحظات لا تخلف وراءها إلا العناء والتلهف للمزيد والمزيد ..
فإن كنت تبحث حقا عن درب تتحقق فيها الشروط ، فإليك هي :
يقول الله تعالى : " ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة "
ويقول : " سيهديهم ويصلح بالهم "
ويقول : " ومن يؤمن بالله يهد قلبه "
إنها طريق الإيمان والاستقامة والسير على منهج الله ، هي الراحة وعين السعادة ، ومستقر الاطمئنان ، ولا طمأنينة في غيرها من الدروب ، لخالق النفس عالم بما يصلحها ، ففي تشريعاته كل راحة وطمأنينة ..
فسارع إلى اختيار درب توصلك لجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين " وانأ بنفسك عن درب قال ربك فيه : " ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا " ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق