السبت، 26 مارس 2011

لا تلتفت للوراء


في الحكم السالفة القديمة أن ما فات مات وما هو آت آت ..
ومن يتأمل ويبصر يجد أن الواقع خير شاهد على أن ما فات ميت ميتة حقيقية لا حياة فيها ولا حراك في أعضاءها ، ولا يرجى لها حياة خلا التعشيش في العقول والانزواء خلف قضبان نافذة الواقع المعايش ، وستائر الحاضر بما فيه من حلو ومر ..
فالحاضر المعايش هو الحي ينبض في قلوبنا شئنا أم أبينا ، يضمنا إلى صدره ، ويحتضننا بين يديه بكل قوة ولو كنا نكرهه أيما كره ، ونبغضه أيما بغض ، ولا يبغض قضاء الله مؤمن ، ولا يرد قضاء الله راد ..
نعم ..
وبلا شك أن في الماضي أحداث وأحداث ، ووقائع ومشاهد ، وآلام أتعبت ، وآمال أفرحت ، وربما لم يكتب لها أن تكتب على صفحة الواقع ..
وجميل أن نحمل من تلك الأحداث والوقائع شموع ذكرى ، ومصابيح خبرة تضيء لنا درب الحاضر الذي هو بين أيدينا ، فمن ليس له ماض ليس له حاضر ، وإن في الفائت القريب أو البعيد من الخبرات ما ربما عجزت أيام الحاضر عن الإتيان بمعشاره ، ولو كان بعضها لبعض ظهيرا ..
فلحظات من تصفح الذكريات الجميلة تنعش الحياة ، وتمنحها شحنات حياة جديدة ، ودقائق نقضيها في محاولة استجلاب الدروس والعبر من أحداث مرت عن كثب قد تكسبنا خبرة لا يستهان بها نصارع بها الواقع ، ونجالد بها صعوبات الحياة ..
فطالب أهمل في دراسته ، فعايش واقعا مرا من قبل ومن بعد ، حري بالتفاتته المبصرة للماضي أن تكسبه خبرة عن متطلبات الحياة وأنها لا تبنى على الكسل والدعة ، وإنما الثمرة من صنع من جعل الزارعين سببا ، والعاملين وسيلة ..
وشاب توفي والده وبقيت والدته  ، وقد أغفل رعاية الكهل الراحل والاهتمام به في كبره ، ووقت الحاجة إليه ، يجمل به أن تحين منه التفاتة صادقة بارعة إلى ماضيه مع أبيه ، ويصافحه ليتسلم منه شموعا تنير له درب التعامل مع الوالدة ، ويستغفر الله لما قصر في الوالد ، إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين ..
وأب تشاغل عن ولده ، فلم يوفه حقه وما فرضه الله من التربية الدينية والخلقية المطلوبة ، بل كان له من التسيب أجزل الحظ وأوفر النصيب ، فراهق يوم راهق في كنف رفقاء الباطل وقادة الفساد والانحلال ، من الطيب المفيد لهذا الأب أن يستلهم الدروس ويأخذ العبر ، ويحاول الاستفادة من التجربة المنصرمة الفاشلة ، وقد حملها القطار ولم يبق له فيه إلا أن يرفع صوته بأعلى ما يمكن ناصحا وموجها عن بعد عل الولد أن يخرج من براثن الفساد ، حري بالوالد الكريم أن يدرس أخطاءه في بكره الذي ضاع أو كاد ليبني مما يناقضها من خير وبر وحسن رعاية أساسا لتربية صالحة لبقية أولاده وبناته ، والله يعوض ويخلف ..
كل ذلك جميل ورائع ومطلوب ..
ولكن ..
من الحماقة والسخف بمكان أن يقضي المرء ساعات ليله ونهاره يقلب صفحات الماضي ووريقات العهود المنصرمة ، في عمله شارد التفكير في ماضيه ، وفي بيته مرتكن إلى زاوية يستمطر بها سحابة الفائت ، ينتقل من تذكر مصيبة ماضية إلى معانقة أخرى منصرمة ، فتذهب سويعاته سدى في التحسر على المنقضي  والتندم على ما فات ، يستجدي عينيه اللتين ملتهما الدموع ، وأرقهما السهاد أن تجود عليه بدمعات أخر ، ويستعطف قلبه أن يتكرم عليه بأحزان جديدة ..
فإذا مل الفؤاد من التحازن على المصائب والمتاعب ، نقل إليه العقل على الهواء مباشرة بثا حيا لآمال حالت بين تحقيقها ظروف صارمة ، يرى صاحبنا في التملي في محياها والتحسر على عدم تحقيقها رواحا واستراحة ، وما في الحالتين إلا قلل النصب والتعب يرزأ بحملها الفؤاد المرهق المنهك .
أخي الكريم
قم بمسح شامل لمساحة قلبك ، وحاول استقصاء ما يحجزه الماضي منها من التفكير في المصائب والأحزان والمتاعب والمصاعب والأحداث والوقائع الفائته ، ثم قم بتخلية شاملة لذلك كله ، وأزح عن قلبك كل تلك الهموم ، ثم تأمل في النتيجة ..
ولا تبق لأحداث الماضي في قلبك مكانا إلا ما كان منها لذكرى جميلة خاطفة أو أخذ عبرة ودرس تستفيد منه لحاضرك الحي ..
ستجد نفسك وكأن جبلا انزاح عن قلبك كان جاثما عليه بكل ثقله ، وارتاح فؤادك من هموم وهموم لا طائل من وراءها البتة ..
واعلم أنه كلما أفرغت قلبك من هم هموم الماضي وفرت له مساحة لتخطيط رائع بناء أساس متين وحكيم يكون منطلق تشييد قصر الحاضر المشرق ..

محمد بن سعيد المسقري
Mq99@hotmail.com


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق