الأحد، 22 أبريل 2012

ما سر هذه المحبة ؟!

لا زلت أذكر عندما كنت في المرحلة الثانوية ، كنت في فصل ( يقلب ) المدرسة عاليها سافلها من تجاوزاته ، حتى يكاد  بعض المعلمين أن يجن أحيانا من تلك ( الشلة ) التي تتخذ مكانا قصيا في الفصل ، وقد يتناثر عقدها فيتشتتون في مختلف أرجاء الصف ، من باب الدعوة إلى (الخير) ، وعدم لفت الأنظار!!
حتى اشتهر الفصل في المدرسة مع بعض الصفوف الأخرى أنه مرتع للفوضى وقلة الاحترام ، وما ذاك بغريب ، فإن تفاحة واحدة في صندوق التفاح قد تأتي على الباقي ، فتجد بعد أيام أن غالبه عفن ، فطالب أو طالبان عندهما ( الجدية ) في المشاغبة ، يستميتان في اختلاق المشاكل كفيلان بتلطيخ الوجه ، وتشويه السمعة ..
صرفكم الله إلى الخير ماذا جنيتم لنا ولكم ؟ سامحكم الله ..
لا علينا فليس هنا مربط الفرس ..
استوقفني شيء غريب حقيقة في خضم تلك الأحداث والذكريات ..
لاحظت أن تعامل أرباب الفوضى والتجنين يختلف من معلم لأخر ، ويتباين تباينا عجيبا ، ولا أعني التفاوت المعتاد بين الاحترام المصطنع للمعلم ( الجلاد ) – إن صح التعبير - ، وبين احترام المعلم الوديع ..
كلا ..
إنما توقف شريط الذكريات متأملا ، في حصة لمعلم مصري كان يدرس مادة الكيمياء .. لاحظت أن هذا المعلم عندما يدخل الحصة تجد الجميع كأن على رؤوسهم الطير ، وتجد الشلة حينئذ كحمامة بلها المطر ، تقبع في مكانها لا هي قادرة على الطيران ، ولا الهروب من المطر ، هدوء غريب يخيم على الحصة ، وتجد التفاعل والمشاركة والتجاوب من هؤلاء قبل غيرهم ..
عجبا ..
ليس في يد الرجل عصا ، ولا يلبس زيا عسكريا قد يهابه بعض الناس ،  وليس ممن يملأ أرجاء الفصل تهديدا وتوعدا  ، ولا ممن يصم الآذان صراخا وعويلا ،  أو لأتفه الأسباب يجرح القلوب تلويما وتعنيفا وتوبيخا ..
فقط يدخل حصته بكل هدوء ، ويسلم مبتسمتا ، ويسأل عن الأحوال والصحة ، ويكتب عنوان درس الكيمياء في ذلك اليوم ، ويبدأ في توضيحه بكل سلاسة ..
وإن تعجب فعجب أن قائد الشلة – تقريبا وإلا فليس من السهل قياد أؤلئك – صرح أكثر من مرة أنه يحب هذا المعلم حبا غريبا  , وأنه يجد نفسه كالمقيد عن فعل الأعمال الفوضوية ، يقول : احترامه أكبر من أن أتجرأ على تنغيص حصته ، بل يوبخ أتباعه إن قام أحدهم بحركة عارضة ، ويقول لهم : وفروها لفلان ليس وقتها الآن !!!
حتى أن الشلة تلبس ثوب الصدق والأمانة في تلك الخمس والأربعين دقيقة ، فعندما يستأذن أحدهم إنما يستأذن فعلا لحاجة ، وما أكثر التواءاتهم وتلفيقاتهم عادة !!
كنا نحسب أن القلب الصخرة والجلد والتعنيف والتوبيخ هي التي يفرض الاحترام ، والنفاق والمداهنة والتلون تجلب المحبة ، وليس عند أمثال هذا شيء من ذاك ..
ثمة شيء آخر ..
بين المعلمين في قاعتهم ، أو بين أرجاء الحافلة التي تقلهم – وحسبما أبلغني بعض الثقاة من المعلمين – تجد الاحترام الغريب العجيب لهذا المعلم ، فرأيه قد يزن عند بعضهم جبلا ، وكلامه على العين والرأس ، يستنصحه المعلمون ويستشيرونه في كثير من شؤونهم ..
فسبحان الله !
ليس الرجل (بروفيسورا ) تجعل شهادته عند البعض رخصة لقياد حياة الناس  ، وليس فيلسوفا تعينه فلسفته  على ( التنظير ) والتشدق !
ما الذي جلب له كل هذا الاحترام ؟ وما سر هذه الحب الغريب الذي انغرس في القلوب لمثل هذا الشخص ؟؟
إليك الجواب - والله أعلم - :
هذا الرجل نحسبه مخلصا لله – ولا نزكي على الله أحدا - ، يحفظ القرآن عن ظهر قلب ، وما أكثر الحفاظ – ولكن هذا على ما يبدو قد جعل القرآن سراجه الذي يستضيء به في حياته ، فحسبما عرفت عنه أن جلساته قرآنية ، لا يشارك في اللغو والغيبة وكلام السوء وهمز ولمز الآخرين ، ولا تجذبه الاهتمامات التافهة ، وباختصار يحاول أن يكون قرآني النزعة والسيرة ، يرى الدنيا بأسرها بمنظار الكتاب العزيز ، كما وصفها ربها لهو ولعب ، فكل اهتمامه أن يقدم صالحا ، فإن سمع لغوا أعرض عنه ، ونصح وبين ، وإن سمع خيرا ممن حوله حاول الاستفادة منه ، وشارك فيه بما يعرف ، لا يلتفت للمظاهر ، ولا يقدس الأشكال ، ولا تجذبه الأضواء كما تجذب الفراشات المستميتة  ..
فعلى ما يبدو أن الرجل قد نقى سريرته وعلانيته من الانكباب على الدنيا ، وترفع عن السفاسف ، وحاول أن يكون مؤمنا بالله حقا ، فجاءته هدية وبشرى زفها القرآن لكل من اتصف بالصفة التي قيدت بها  " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا " ، وليس كل إيمان يجلب كل هذا القبول والمحبة ، إنما هو إيمان من نوع خاص ، يجعل صاحبه يعيش بين الناس محبوبا ، وفي أوساطهم مقبولا ، تنجذب إليه القلوب بعفوية ، وتلقائية غير واعية ، وكأن هؤلاء الأشخاص يهبون الناس ماء الحياة أو أسرار السعادة ، وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ..
هذا النوع من الإيمان موجود في المجتمع ، ليس بكثرة طاغية ، ولا قلة نادرة ، إنما هم صنف من الذين ظاهرهم الصلاح ، فليس كل من أبدى صلاحا صالحا ، وليس كل من لبس ثوب الاستقامة ظاهرا يتنسم عبق نسائمها الطيبة ..
فإن وعدني القارئ الكريم أن يبقى معي ، سنحاول في الحلقة القادمة  أن نضع مقارنة بسيطة  بين الذين يأسرون قلوب الناس ، ويكتسبون محبتهم دون أن يكون لهم يد واضحة على الناس غير يد الإيمان والأخلاق الحسنة ، وبين آخرين ظاهرهم الصلاح ولكن ربك أعلم بالباطن !!

فابقوا معنا ..
محمد بن سعيد المسقري
Almasqri1@hotmail.com


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق