الاثنين، 18 فبراير 2013

ملاحظات على مقال " في سبيل إصلاح المؤسسة الدينية، الحلقة الأولى"


ملاحظات على مقال " في سبيل إصلاح المؤسسة الدينية، الحلقة الأولى"
- للأخ بدر العبري


الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد،،
فبداية أشكر الأخ العزيز بدر العبري على أطروحاته المتميزة في الجانب السياسي والوطني، وبعض مقالاته الاجتماعية، والتي تنم عن حس وطني مرهف، ورغبة في الرقي بالمجتمع.
كما أثمن حبه للتجديد، ورغبته في التغيير نحو ما يراه الأفضل والأكمل فجزاه الله خيرا .
وحقيقة كنت أنتظر الحلقة الثانية من المقال المذكور ، علها تحل بعض الإشكالات التي علقت في الذهن ولم أجد لها تفسيرا ولا واقعية ، ولكن مع مرور الأيام، وكتابة الأخ بدر عدة مقالات أخرى،من غير أن يكمل ما بدأه، ارتأيت وضح هذه الملاحظات والتساؤلات، مستخدما طريقة القراءة التفكيكية، والله أستعين .
يقول الأخ بدر العبري :
" لماذا الحديث عن المؤسسة الدينية؟
سنتحدث في هذه الحلقات وبإذن الله تعالى عن المؤسسة الدينية وسبيل إصلاحها، وبداية سوف يستفهم القارئ الكريم لماذا الحديثُ عن المؤسسة الدينية، وفي هذه الفترة الراهنة بالذات، وهل هي بحاجة إلى نقد ذاتي، وإصلاح شمولي؟!
والجواب عن هذا الاستفهام الجيد في عمومه، فلا شك أنّ المجتمعات هي مجتمعات متدينة في جملتها، والتدين غريزة من ...الغرائز في النفس البشرية، سواء قلنا غريزة ذاتية أو مكتسبة على خلاف بين الفلاسفة، ولكن يبقى التدين فطرة غريزية في النفس الإنسانية، ويبقى للبيئة والتراث والتأريخ اختلاط بتدين البشر، من هنا اختلط التدين بالخرافة والكهانة والقداسة لغير الله سبحانه وتعالى.

وأقول : "  نعم – أخي بدر - الإنسان متدين بفطرته ، والتدين فطرة غريزية في النفس الإنسانية ،  كما قال الله تعالى : " فطرة الله التي فطر الناس عليها"، بيد أن هذه الفطرة سرعان ما تتغير إلى الجحود والكفران والفسق ، كما قال الله تعالى : " وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين" ، و"ولكن أكثر الناس لا يؤمنون "، " فأبى أكثر الناس الا كفورا" فهذا الكفران هو الذي يسود المجتمعات غالبا لا التدين ، فلا أدري من أين أتيت بأن المجتمعات متدينة في جملتها ؟
وهذا يحدث – كما أشرت – بتأثير البيئة المحيطة، والموروثات غير الإسلامية ، كما جاء في الحديث النبوي " كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه"، أما التراث الإسلامي الذي عكف العلماء على تأصيله، وتنقيته فإنه من وسائل تصحيح الأفهام والقناعات التي قد تتأثر بالعوامل النفسية والبيئية الداخلية والخارجية، لا من عوامل اختلاط الدين بالكهانة والقداسة لغير الله ، ولن يأل أهل العلم و ( المؤسسات الدينية ) في ذلك جهدا – بإذن الله -.
وإن كنت تعني التدين بغير ملة الإسلام ، فهذا تدين لا يعتد به، وقد قال الله – تعالى : " ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين "

يقول الأخ بدر : " والأصل في التدين أنه رباني المصدر، كما قال سبحانه: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ، وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}."
وأقول : لا يختلف عاقلان في  أن التديّن رباني المصدر ، وأن الرسل لم يبعثوا ليعبدوا من دون الله ، ومن باب التوضيح فإن ذلك لا يعني أن مهمة النبي تقتصر على إبلاغ ما ورد في الكتاب التي نزل عليه، أو أن طاعته تقتضي عبادته من دون الله، إنما النهي عن عبادته  واتخاذه إلها كما حدث غيره من إخوانه الأنبياء، وإلا فإن طاعة الأنبياء مطلوبة في التشريعات السابقة ، وأقرب مثال سيدنا عيسى الذي جعل إلها أو ابنا لله يقول القرآن على لسانه : " ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون " ، " قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون" وكذا الأنبياء قبله نوح وهود وصالح ولوط وشعيب جميعهم ورد على لسانهم : " فاتقوا الله وأطيعون "، فمن هنا يتبين أن اتخاذ الأنبياء أربابا ليس طاعتهم وإنما عبادتهم.
كما جاء الأمر بطاعة سيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم -  وأخذ ما أتى به والانتهاء عما نهى عنه : " وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا" ، " وما هنا نكرة تعني الإطلاق والعموم فتقييد هذا الإطلاق وحصره بمجرد إبلاغ الكتاب يحتاج إلى دليل.
ويقول الله تعالى : " وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم "، ف ( ما كان ) تقتضي الحظر والمنع ( القرطبي) ،  و(ما) هنا نافية عامة، و(أمرا ) نكرة تفيد العموم ، و ما ( قضى الله ورسوله ) يقتضي أن يكون غير القرآن داخلا فيه ، إذ المصطفى – صلى الله عليه وسلم – لم يتدخل في الصياغة القرآنية ، فالقرآن من عند الله وحده، بينما السنة المطهرة وحي من الله جاءت على لسان الرسول – صلى الله عليه وسلم -، " وسبب نزول الآية معلوم ، إذ نزلت عقب أمر أمره النبي – صلى الله عليه وسلم – وجاءت الآية مؤكدة لطاعة أمره – عليه الصلاة والسلام( جمهور المفسرين )
" فهذه الآية عامة في جميع الأمور ، وذلك أنه إذا حكم الله ورسوله بشيء ، فليس لأحد مخالفته ولا اختيار لأحد هاهنا ، ولا رأي ولا قول ، كما قال تعالى : ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ) [ النساء : 65 ] وفي الحديث : " والذي نفسي بيده ، لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به " ولهذا شدد في خلاف ذلك ، فقال : ( ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا ) ، كقوله تعالى : ( فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ) [ النور : 63 ] ( ابن كثير)
" وهذه الآية في ضمن قوله تعالى : النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم . ثم توعد تعالى وأخبر أن من يعص الله ورسوله فقد ضل . وهذا أدل دليل على ما ذهب إليه الجمهور من فقهائنا ، وفقهاء أصحاب الإمام الشافعي وبعض الأصوليين ، من أن صيغة ( أفعل ) للوجوب في أصل وضعها ؛ لأن الله تبارك وتعالى نفى خيرة المكلف عند سماع أمره وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم ، ثم أطلق على من بقيت له خيرة عند صدور الأمر اسم المعصية ، ثم علق على المعصية بذلك الضلال ، فلزم حمل الأمر على الوجوب " ( القرطبي)

يقول الأخ بدر : " والربانية في التدين تشمل أمرين: الأمر الأول التوجه، والأمر الثاني التلقي، فهي ربانية التوجه: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}، كما أنها أيضا ربانية التلقي: {قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}. "
وأقول : " جميل ، إذن المصطفى – صلى الله عليه وسلم – يتبع ما أوحي إليه ، وهذا لا يعني اقتصار ذلك على القرآن الكريم ،بما أشرنا من الأدلة و بدليل قوله تعالى : " وما ينطق عن الهوى . إن هو إلا وحي يوحى " " ففيها أيضا  دلالة على أن السنة كالوحي المنزل في العمل " ( القرطبي ) ، ف ( ما ) هنا نكرة تفيد العموم ، فما الذي يصرفها عن عمومها ؟ و( إن ) نافية لكون ما ينطقه يخرج عن الوحي ، فما الذي يقيد هذا النفي ؟؟
نعم .. عاتب الله سبحانه وتعالى نبيه – صلى الله عليه وسلم – في بعض آي القرآن الكريم على بعض التصرفات ، ومنها : " عفا الله عنك لم أذنت لهم " ، و " عبس وتولى أن جاءه الأعمى .. " و " ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يتخن في الأرض " ، بيد أن المواقف والتصرفات ترجع إلى آيات الإحكام التي أشرت إليها ، ويبقى المصطفى – صلى الله عليه وسلم – معصوما مسددا بالوحي، ولماذا لا تكون هذه العتابات التي ينظر إليها العض على أنها تنافي العصمة، لماذا لا تكون نفسها دليلا على عصمته وأنه مسدد بالوحي ؟ فهي مواقف وتعاملات بسيطة جدا، ورغم هذا نزل فيها القرآن ، ففي ذلك دليل على أن ما لم يعاتب عليه تشريع يبقى على عموم الآيات المحكمة، فتصرف على أن ذلك (خلاف الأولى) في الأمور الدنيوية والتعامل ، لحكمة أرادها الله – سبحانه وتعالى – لا تخطئة  تجعل النبي – صلى الله عليه وسلم – كغيره من البشر يصيب ويخطئ ، لنفتح بابا لأعداء الدين ينفذون منه إلى الطعن في الإسلام ورسول الإسلام .
وإلا فجعلها خطأ يصادم نصوصا ومسلمات أخرى ، فمثلا : عبوس وجه النبي – صلى الله عليه وسلم - للأعمى، إذا عد خطأ فإن ذلك يقدح في أخلاقياته العظيمة : والله تعالى يقول : " وإنك لعلى خلق عظيم ".

يقول الأخ بدر : " هذا التدين هو التدين الموافق للفطرة التي فطر الله الناس عليها، {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}.
ولكن مع تقادم الزمن، ومرور الأيام، يضيف البشر إلى التدين الإلهي تدينا بشريا، بل تُحور التعاليم الإلهية لتوافق التعاليم البشرية لا العكس، فيصبح الحاكم محكوما، والمحكوم حاكما، وهذا ما حدث للتوراة من تحريف بشري، فأنزل الله تعالى الإنجيل مصححا ومصدقا للتوراة: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ}.
ثمّ إنّ الإنجيل نفسه أيضا تعرض لتحريف بشري، فأنزل الله تعالى القرآن مصدقا ومهيمنا: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}."
وأقول : لا اختلاف في هذا ، فقد تعرضت التوراة والإنجيل للتحريف ، وقد نسخ العمل بهما – ولو لم يحرفا – بنزول القرآن الكريم .

يقول الأخ بدر : " إلا أنّ هذه الشريعة القرآنية ذاتها تعرضت لتحريف بشري لا في ذات النص كما في التوراة والإنجيل، ولكن في تفسير النص، إذ جُعِلَ التفسير مهيمنا على النص لا العكس، ولتقوية هذا التفسير أضيف إلى النبي الأكرم أو الصحابة أو آل البيت أو التابعين، والذين يشكلون منظومة السلف!.
وشاء الله سبحانه وتعالى أن يحفظ كتابه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} ليكون الكتاب مهيمنا ومصدّقا على التفاسير وإضافات البشر على أكثر من ألف عام من نزول القرآن.

وأقول : " أخي بدر : لا أدري من أين أتيت بأن التفسير جعل مهيمنا على النص ؟ والله أمر بتدبر القرآن وتأمله " كتاب أنزلناه إليك ليدبروا آياته " " وأمر بإرجاع ما يشكل على الناس إلى أهل العلم الذين يستنبطون منه القواعد والأحكام " وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم " ، " ولو ردوه إلى الله والرسول وأولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم " ، فالله هو من أمر العلماء والمفسرين بتوضيح آي القرآن وتفسيره ، وهذا ما فعله المصطفى – صلى الله عليه وسلم – كجزء من مهمته في الرسالة : " لتبين للناس ما نزل إليهم " ، وللمفسرين به – صلى الله عليه وسلم – قدوة وأسوة .
أما عن إضافات البشر ، فما أضافت الأمة – بحمد الله – شيئا في كتاب ربها ، ومن فعل ذلك شذوذا فقد خرج عن ملة الإسلام بإجماع الأمة ، أما التفسير والتأويل لا أدري لماذا تنظر إليه على أنه مصادم للحفاظ على كتاب الله :
أولا : لا تقلق ما دام قد تكفل الله بحفظ كتابه.
ثانيا لماذا لا يكون التفسير عونا على الحفاظ على معاني القرآن الكريم ، بدل أن يكون معول هدم لهذا الحفظ ؟
فنحن إذا رجعنا للمفسرين العظام – سيما أصحابنا – نجد الاعتماد على قواعد راسخة، هدتهم إلى التأويل المنطقي بما يتوافق مع النص .
فالمفسرون – وقد عكفوا على كتاب الله تعالى ، وبذلوا الجهود المضنية لخدمته – عندما يقرؤون قول الحق – تبارك وتعالى - : " لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد " ، علموا يقينا أن القرآن لا يناقض نفسه، ولا تتعارض آياته ، وأن خير ما فسر القرآن القرآن، فينطلقون من محكم القرآن لتفسير متشابهه.
ولما قرؤوا قوله – تعالى - : " كتاب أنزلناه إليك لتبين للناس ما نزل إليهم " ، أدركوا أن السنة المطهرة خير مبين لمعاني القرآن الكريم ، فجاء تفسير القرآن بالسنة.
ولما قرؤوا قوله تعالى : " قرآنا عربيا غير ذي عوج "، " وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا " ، " بلسان عربي مبين " جعلوا اللغة العربية مرتكزا لتفسير آي القرآن وألفاظه وتراكيبه، وعونا في التأمل في بلاغته، وترابطه، وسياقه اللغوي بما يؤدي إلى المعنى المقصود، ويضع اللفظ في موضعه السليم من اللغة .
ولما قرؤوا قول الحق – تبارك وتعالى - : " وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم ، و تأملوا عواقب الافتراء على الله و التقول عليه  بغير علم في قول الحق – تعالى - : " ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا " ، " وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون" زاد ذلك من وجلهم أن تلعب بهم الأهواء، فجعلوا للتفسير مفاتحا وقواعدا وشروطا يأتي في مقدمتها ما أشرنا إليه من العلم بالعربية والسنة المبينة ، وسهروا الليالي في إعمال الفكر في التفسير والتأويل.
بينما عندما حاول البعض نسف تلك الجهود ، وظنوا أن ( التباكي ) على كتاب الله تعالى، واتهام العلماء بهجره، واتخاذه ظهريا ، ظنوها مؤهلات كافية لاقتحام التفسير ماذا كانت النتيجة ؟
خرجت لنا مقالات ومدونات تتخبط في تفسير النص خبط عشواء، وتخوض الصحراء بلا زاد ولا ماء، فأصبحت الخيارات لديهم كلها مفتوحة، والاحتمالات جميعها واردة، ما يحتمله النص وما لا يحتمله،  فجاءت التفسيرات المتكلفة التي لا تستند على لغة ولا قواعد ، وكيف يستندون على قواعد وهم لا يملكونها ولا يؤمنون بها ؟ فصار الهوى مفسرا، وبدل أن يًسأل هؤلاء من أنتم ؟ وماذا لديكم من زاد ومؤهلات ؟ يطبل لهم ويصفق ،  فانطلى الأمر على البعض والتبس، فهربوا من تفسيرات العلماء إلى تخبط الجهلاء، ومن اتباع القواعد الرواسخ إلى بحار لا ساحل لها من تناقض الأهواء .
ولا أدل على ذلك مما ارتجله بعضهم في تفسير معنى قيام الليل وجنة المأوى وغير ذلك من الأمثلة التي لا يتسع المقام لسردها ، والرد على بنيانها المتهاوي .

يقول الأخ بدر : " فالمؤسسة الدينية اليوم تعاني من خروقات ثلاث:
الخرق الأول: تقديس الأشخاص من الأحبار والرهبان، تحت مسميات تختلف باختلاف المذهب الفقهي أو العقدي، فجعلوا أنفسهم أوصياء لهذا الدين، وأصبحت القداسة لهم أكبر من القداسة للنص التشريعي ذاته، كما كان عند اليهود والنصارى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}، والحديث في الآية ليس محصورا في اليهود والنصارى وإنما يعم هذه الأمة أيضا، لأنها ستحذو حذوهم، وتسير في نفس طريقهم.
وهذا لا يعني الاستخفاف بالعلماء، ولكن لا يعني في الوقت ذاته رفعهم أعلى من منزلتهم البشرية، فيصبح كما نرى اليوم الدفاع عن أشخاص، والذي أصبح أقرب إلى التأليه، فهم بعيدون عن الخطأ، فلا يُنصحون ويوجهون، ومن الأحبار من يحرّف الشريعة رضا للحاكم، ومنهم رضا للعامة فيبقيها على خرافاتها إذا كان في النهاية مستفيدا من تقديسها له، وتعظيمها لجنابه.
وأقول : أخي الكريم : أولا : أين وجدت أن العلماء جعلوا أنفسهم أوصياء لهذا الدين وأن القداسة لهم أكبر من القداسة للنص التشريعي؟
فإما أن تتحفنا بنصوصهم الدالة على وصايتهم للدين وأن قولهم مقدس فوق قداسة النص ، وإما أن الكلام – مع احترامي - مجرد اتهام مرتجل وافتراء مفتعل.
فقد وجدنا عكس ذلك تماما ، في أقوالهم وأفعالهم ومواقفهم بما يستعصي على الاستقصاء أوالحصر.
" ومن العجب أن أنص لك عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وأنت تعارضني بعلماء بيضة الإسلام، بغير دليل ولا واضح سبيل، أليس هذا في العيان نوعا من الهذيان" الإمام سعيد بن خلفان الخليلي- رحمه الله -.
"نظرت في جواب الوالد –رحمه الله- فلم يظهر لي صوابه، وما من عالم إلا في قوله المقبول والمردود، ما خلا صاحب الشريعة – عليه الصلاة والسلام- والمرء محل الخطأ والنسيان" الإمام محمد بن عبدالله الخليلي مخالفا جده  المحقق – رحمهما الله -  في إحدى المسائل.
" ونأخذ الحق متى نراه    لو كان مبغضا لنا أتاه
والباطل المردود عندنا ولو    أتى به الخل الذي له اصطفوا " الإمام السالمي – رحمه الله -.
" فمن وقف عليه من عالم وعارف، أو سمعه من قارئ وواصف، ورأى فيه شيئا خارجا عن الحق فليصلحه مأجورا إن شاء الله " الشيخ الجيطالي صاحب الدلائل- رحمه الله -.
"وأما قول ابن بركة -رحمه الله- ولم يشاهد مشائخنا بحضرموت يجلسون فنحن على فعلهم فمردود بأن السنة هي الحجة على فعلهم وليس فعلهم حجة على السنة واتباعها وإيثارها على كل حجة بعد كتاب الله تعالى " سماحة الشيخ الخليلي – حفظه الله -.
ولو استعرضنا النصوص الدالة على ذلك لربما احتجنا إلى مجلدات.
ثانيا : إذا كان اتهام العلماء جزافا بأنهم نصبوا أنفسهم أوصياء للدين، وأن قولهم فوق النص لا يعني استخفافا بهم ، فماذا يعني يا ترى ؟! علمنا ونورنا أخي الكريم.
ثالثا : أين وجدت الدفاع عن العلماء الأقرب إلى التأليه؟
هلا تكرمت علينا بنصوص أو مواقف ثابتة تجعلك متيقنا من هذا الأمر الذي تريدنا أن نشاركك حقيقته التي لا تنكر ( فنحن نرى اليوم .. )، أما أنا فلم أر ذلك في من يدينون لله باحترام أهل العلم.
رابعا : ( فلا ينصحون ويوجهون ) هذه أخت شقيقة للأختين السابقتين، تفتقر إلى الدليل من المواقف والنصوص، فقد عايشنا من هم حول مشايخ العلم ردحا من الزمن، ورأينا تنبيههم واستيضاح ما نتصور أنه خطأ وزلل ركب طبعا في البشر غير المعصومين، ولطالما وجدنا تقبلهم العملي مصدقا لطلبهم القولي بتسديد الخطأ والتنبيه عن الزلل، وهذا هو الأصل في أهل العلم الذي يفرضه علينا حسن الظن بالمؤمنين جميعا بله من رفعه الله بعلمه وفضله، وما خالف الأصل يفتقر إلى الدليل ، وإلا فلا يعدو كونه اتهاما باطلا.
خامسا : ( ومن الأحبار من يحرف الشريعة رضا للحاكم ، ، ومنهم رضا للعامة )  ولدت أم الاتهام – بحمد الله – أختا رابعة تؤنس شقيقاتها ، إن من يحرف الشريعة رضا للحاكم أو رضا للعامة، لا يعد عالما صغيرا، بله حبرا ، إنما هو أقرب إلى الجهل ، فنحن نجد في سنة النبي – صلى الله عليه وسلم – ما يخرج غير العامل بعلمه من قائمة العلماء ففي الحديث " تعلموا ما شئتم لن تكونوا بالعلم علماء حتى تعملوا به ".فهؤلاء ليسوا علماء أصلا ، إذ لم يعملوا بعلمهم فلم يعد لهم مكان بين أهل العلم.
أما مشايخ العلم وأهله فإن تشددهم في مسائل الدين ، واتباعهم الدليل من الكتاب والسنة ، يجعلهم في الجهة المقابلة لأهواء الحكام وعامة الناس على حد سواء، فمن المعلوم أن الدول يرضيها من يطبل لسياساتها وتوجهاتها ولو خالف الشريعة ، وأن عامة  الناس تميل إلى الترخص والتساهل بما يتفق وحبهم للراحة واتباعهم لأهواء النفوس، هذا هو الأصل الذي ربانا عليه القرآن الكريم : " فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم "،  " ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق "، " ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك " ، " ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض" ، " أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم " ، فهذه الآيات تبين أن أهواء الناس تدفعهم لعدم الاستجابة للشريعة ، فكيف يكون إرضاء الناس مع التمسك بالدليل الشرعي ؟
هذا هو الأصل ، وما خالف الأصل هو المفتقر إلى الدليل ،  وقد بات واضحا – إلا لمن أصاب بصيرته العمى أو العشى – من المواقف المشرفة لمشائخنا – حفظهم الله -  التي لا تكاد تحصى ما يخالف رضا المسؤولين والعامة وأهواءهم متمسكين بالدليل الشرعي ، مدافعين عن حكمه بالقلم واللسان.
ففي بلادنا – كأقرب مثال عايشناه جميعا - كم استنكر مشايخنا – حفظهم الله – المعاملات الربوية ، والتحايلات المالية، والخمور وتصاريحها ،  ونوادي العهر المتسترة بمسمى النوادي الصحية، ودور الفساد، ودور الغناء والمعازف كالأوبرا وغيرها ، والمهرجانات ، وأكل المال العام والتحايل عليه من قبل ضعاف النفوس، وانتهاك حرمة الإنسان واستعباده قريبا كان أم بعيدا ، مؤمنا أم فاسقا أو حتى كافرا، والغش والكذب بجميع مستوياتهما، والنميمة، وكم أصلحوا ذات البين ، ودعوا بعلمهم وفقهم إلى التآلف والتقارب والتسامح ، وجعلوا ذلكم شعارا تجسد في أقوالهم وأفعالهم.
وقد كان الناس قبلهم في ظلمات من الجهل والبدع والشقاق وارتكاب الموبقات، ولا يخفى الحال حين جاء إلى البلد من على رأسهم – حفظه الله – والناس في نأي غريب عن تعاليم الدين وشعائره، متنكبين الصراط،  حتى لا يكاد يجد من يصلي معه جماعة، فسهر الليالي وأنهك القوى وبذل الحال والمال والوقت حتى تحسنت الأمور، وليت الناس تشكر، بل تنكر بعضهم ، وأساء الظن، وغلبت عليه شقوته، " قتل الإنسان ما أكفره " وهذا حاله ، حتى إذا رأى الأمراض والأسقام تهاوى عليه، وذهب الأمن والطمأنينة من قلبه ومن حوله، يأتي ناقما على من لهم الفضل، مبررا سقوطه وانحداره بفشل العلماء.
ليس العلماء أحق بالاتهام بطلب رضا الناس وقد باعوا راحتهم من أجل أن يسعد الناس، وقد لاقوا ما لاقوا من العنت والمشقة والنكران،  إنما يتهم بطلب رضا الناس من يوافق أهواءهم ورغباتهم بتمييع الدين، والبحث عن الرخص، وتفسير القرآن التفسيرات المتكلفة والمتعسفة دون علم ولا قواعد ، متطاولا على  كتاب الله ، في الوقت الذي ( يتباكى ) فيه عليه، ويتهم أهل العلم بنبذه وهجره والله المستعان.  
سادسا : ( فيبقيها على خرافاتها إذا كان في النهاية مستفيدا من تقديسها له، وتعظيمها لجنابه) هذا اتهام للنية خطير، موجه لمن هم أولى بحسن الظن، يفتقر إلى الدليل على الفعل وعلى النية والمقصد !

يقول الأخ بدر : " الخرق الثاني: انتشار الخرافة في المؤسسة الدينية، وتحولها إلى عقيدة يصعب نقدها أو تجاهلها، وكثيرا للسياسية والعامة دور فيها، وأحيانا تصبح ميزة مذهبية تتميز بها طائفة معينة، وبالتالي نقدها نقد للطائفة ذاتها"
أقول : أخي بدر .. ما تراه أنت خرافة، يعتمد فيه العلماء على نصوص رأوا ثبوتها والتسليم بما دلت عليه، ولها من القرآن أصول وأمثلة، فأين تقبل الرأي الآخر الذي تنادون به دوما – أخي الكريم - ؟
وأما دور السياسة والعامة فهو كسوابقه، ولا يحتاج إلى تعليق.
وعموما هذه النقطة بحاجة إلى توضيح شامل، وقد وعدت ذلك في معرض ردودك على التعقيبات في صفحتك، فننتظر التوضيح.

يقول الأخ بدر : " الخرق الثالث: الكهانة والتي اختلطت بالتدين، وذلك نتيجة اختلاط الموروث البشري بالنص القرآني، وتداخل التأريخ وأحداثه في النص وتطبيقاته، فأهمل الناسُ تدبر النص، ورفعوا الكهانة إلى منزلة النص، وبالتالي نقد الكهانة قد يكون كفرا أو فسوقا عند آخرين.

وأقول :  أخي العزيز : أولا : لا أدري لم الإصرار على ترديد لفظ ( الكهانة) ، لا يوجد لدينا كهنة ورجال دين – بحمد الله – إنما علماء يسترشد بهم الناس في أمور دينهم، فإطلاق لفظ الكهانة بحاجة إلى دليل يثبته وأمثلة واقعية توضحه.
ثانيا : ( أهمل الناس تدبر النص، ورفعوا الكهانة إلى منزلة النص) لا تريد التفاسير التي جعلت (مهيمنة ) على النص، وتريد أن يتدبر الناس في النص! أليست التفاسير عونا لهم على التدبر؟ أتريد أن يكون الهوى ( مهيمنا ) على النص، وإلا ماذا يكون تدبر الجاهل، أو غير المتعمق في العربية، أو غير عارف بسياق القرآن وبلاغته وتراكيبه  وأسباب نزوله ؟
أنترك تدبر أناس خبروا العربية وتعمقوا في أسباب النزول وعلوم القرآن والسنة واستخرجوا من الكتاب والسنة الأصول والقواعد واستضاءوا بها لندعوا عامة الناس إلى التدبر المرتجل ؟!! أليس هذا ضربا من التناقض والمفارقات؟!!
نعم أمر الله بتدبر القرآن " كتاب أنزلناه إليك ليدبروا آياته " ، ولكن هل معناه أن يفهمه من شاء كيفما شاء ؟ أم يتأمل ما اتضح له، ويرجع ما أشكل إلى المتمكنين والراسخين؟
ثالثا : (نقد الكهانة قد يكون كفرا أو فسوقا عند آخرين ) كما أسلفت اللفظ مرتجل لا وجود له عندنا ، وعد نقد العلماء فسوقا لم نطلع عليه، بل اطلعنا كثيرا على العكس، فحبذا لو تتحفنا بما يدل على ذلك.

يقول الأخ بدر : " هذه الخروقات الثلاث نجدها مؤثرة اليوم في المؤسسة الدينية، وفي تعاملها مع الأحداث المعاصرة، مع صراعاتها الداخلية، وجعل المذهبية أديانا منزلة من السماء "
وأقول : هذه النقطة تحتاج إلى توضيح وأمثلة مفصلة عسى أن نجده في الحلقات القادمة  – بإذن الله -.

يقول الأخ بدر : " وحري بنا في هذه المقدمة في حلقة اليوم أن نبين للقارئ الكريم ماهية المؤسسة الدينية أو المقصود بالمؤسسة الدينية، فقد يتصور القارئ الكريم عندما نتحدث عن المؤسسة الدينية إنما نريد بذلك المؤسسة الرسمية المتمثلة في دار الإفتاء، أو هيئات ووزارات الأوقاف.
ولا شك إن هاتين الجهتين تمثلان الروحَ الرسمي للمؤسسة الدينية، ولكن لا يقتصر الحال معها، فهناك مؤسسات الأفراد الذاتية، والمساجد، والمعاهد والجامعات الدينية ونحوها "
وأقول : أخي بدر .. أولا : لا إشكال في إطلاق لفظ المؤسسة الدينية على دور الإفتاء والمعاهد الدينية، والتي يكون على رأسها – عادة – علماء مصلحون أو مشايخ فضلاء، لكن ما معنى مؤسسات الأفراد ؟ هلا تكرمت بتوضيحها دفعا للإيهام .
ثانيا : جعل المساجد مؤسسة دينية لا إشكال فيه كمصطلح، ولكن هل لي أن أفهم منه أن للأئمة والواعظين وأمثالهم من القداسة والكهانة والعصمة ما أشرت إليه في سابق مقالك؟

يقول الأخ بدر : " لذا نجد المجتمع والأفراد لغريزة التدين كما أسلفنا ينظرون إلى هذه الجهات نظرة إلهية يسيرون بها إلى الفردوس الأعلى، وهي تحدد مصيرهم من حيث النجاة أو العذاب يوم القيامة، لذا سوف يوجهون إليها أدق تفاصيل حياتهم، في دخولهم للحمام، وآلية الدخول، وكم عدد مرات إزالة النجاسة، ونحوها من مسائل الحمام الدقيقة، لأنه يتصور مخالفة واحدة كفيلة بعذاب جهنم وبئس المصير!"
وأقول : أولا : ( نظرة إلهية – يسيرون بها إلى الفردوس الأعلى – تحدد مصيرهم ) أخي .. أليس هذا اتهاما لعموم المجتمع بالشرك وعبادة المؤسسات من دون الله يفتقر إلى إيضاح ودليل؟
ثانيا : إن كنت ترى اتباع اجتهادات العلماء عبادة من دون الله فما البديل من وجهة نظرك ؟
هل البديل أن يجتهد عموم الناس حتى الجاهل منهم فيخبطون خبط عشواء ، والله يقول : " قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون"؟!!
ثالثا :  متى رأيت الناس يعتقدون أن عدم الالتزام بتفاصيل دخول الحمام وعدد مرات إزالة النجاسة كفيل بعذاب جهنم ، في زمن أصبح التساهل في الواجبات والمحرمات – حسب اجتهادات العلماء - أسهل من شرب الماء الزلال عند كثيرين ؟!!
رابعا : هذه سنن عملية تكاد تبلغ التواتر وتطبق عليها كلمة الأمة، فإن كنت ترد الروايات الواردة فيها ، فبأي منهج رددتها ؟ هل بحثت في سندها ؟ هل صادمت القرآن ؟ هلا أوضحت منهج ردها وبينته حتى لا يساء بك الظن.
وإن كنت لا تردها ، فمتى وجدت العلماء يسوون بين السنن والواجبات، ويرتبون على السنن عذاب جهنم ؟ فإما أن العلماء صوروا للناس ذلك، وإما أن الناس فهموا العلماء كذلك، وهذا – كما أسلفت – يفتقر إلى الدليل من نصوص العلماء أو واقع الناس.
خامسا : إن كنت ترى مخالفة الواجب أو انتهاك المحرم والموت على ذلك دون توبة ليس كفيلا بعذاب جهنم ، فقد أخذه علماؤنا من قوله تعالى : " بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأؤلئك أصحاب النار هم فيها خالدون" ، فما توجيهك للآية – إن كنت ترى نفسك أهلا للتفسير؟.

يقول الأخ العزيز بدر : " وعليه المؤسسة الدينية في غالب الأحوال إما أن تكون في ذاتها متلقية للفكر التأريخي غير ناقدة، ونقدها للفكر الموروث سيألب عليها أفراد المؤسسة الدينية ذاتها، فتصبح بعد ما كانت مرضية في دائرة المغضوب عليها والضالين، والمؤسسة الدينية الإسلامية المعاصرة خير مثال لذلك، كما حدث عند الإمام محمد عبده المتوفى: 1905م فبعد قراءته النقدية للتراث، وكنسه له ليخرج الطيب من غير الطيب، وبعد ما كان شيخا مرضيا، أصبح ماسونيا يهوديا عقلانيا منكرا للسنة ومذاهب الأئمة، كلّ هذا بسب وقوفه مع التراث بوجه العالم الناقد لا المستسلم.
وإما أن تكون حامية ومحافظة للتأريخ مع علمها الشديد بمخالفته منطوق الكتاب، والعقل السليم، وهذا الفكر يساند الظالم ظلمه، ويحرم المظلوم حقه، ولكنها حفظا للسياج الطائفي، أو حفاظا للمال المنشود، وتقربا للحاكم والعوام، تبقى رهينة هذا التراث، وتؤيده بآيات الكتاب، وتجعله رباني المصدر، لا يُقترب منه بحال من الأحوال.
هذان السببان جعلا من المؤسسة الدينية مؤسسة كهنوتية بشرية تنطق باسم الله ظاهرا، وباسم البشر حقيقة وجوهرا، وعليه كان الانحراف فيها عن خط القرآن الكريم، لذا سنحاول في الحلقة القادمة بإذن الله تعالى بيان الفرق بين الكهانة والتدين، أو بمعنى آخر بين المصدر الإلهي والبشري في المؤسسة الدينية اليوم، ومدى أثر ذلك على الحراك المدني"
وأقول : أولا :عهدنا بالعلماء يفسرون (المغضوب عليهم) و ( الضالين) باليهود والنصارى ، فكيف جعلتها – هدانا الله وإياك - في المسلمين؟!!
ثانيا :  (حفظا للسياج الطائفي-  حفاظا للمال المنشود- وتقربا للحاكم والعوام - مؤسسة كهنوتية - الانحراف فيها عن خط القرآن الكريم،) محض اتهامات تفتقر إلى أدلة وأمثلة مفصلة .
ثالثا : إذا كنت تشير ب ( دائرة المغضوب عليهم والضالين ) وضربك المثل  بالإمام محمد عبده ، إلى من انتقد توجههم أهل العلم مؤخرا وعلى رأسهم سماحة الشيخ – حفظه الله – فأقول :
1-           طالما اختلف الشيخان المجتهدان المعروفان في مسائل كثيرة، فإن كان الاختلاف في الرأي هو سبب ( النبذ ) المزعوم فلم لم يعادي أحدهما الآخر ؟ لم يضفي كل منهما على الآخر أرفع الألقاب العلمية وأجلها في المحافل والتصريحات ؟!! بل لم يضفي سماحته كثيرا المدح والثناء على بقية المشايخ ويشجعهم إلى الوصول إلى الاجتهاد ويفرح بمن يعينه على مهمته ويحمل عن كاهله جزءا من المسؤولية أمام الله ؟!!
2-           إن من تشير إليهم لم يخالفوا في مسائل معينة ، فتم التعامل معهم كما يظن بعض الناس، إنما كالوا التهم جزافا على المرويات الحديثية وفقهاء المسلمين، واتهموا الأمة بافتراء معظم الأحاديث المنسوبة إلى النبي – صلى الله عليه وسلم -، وطالما استهزءوا بأهل العلم والمتدينين، في الوقت الذي ينادون فيه باحترام الآخر. وطفقوا يفسرون كتاب الله بما تهوى أنفسهم ، وهذا ليس اتهاما وافتراء، ورجما بالغيب، بل هو ثابت في مقالات وتغريدات يقرؤها اللآلاف.
ورغم هذا تم التحاور معهم من قبل أهل العلم مرارا ولفترة طويلة دون جدوى، وقد بين ذلك سماحته ذلك في أكثر من موقف.
3-           لا أظنك تؤمن أن كل اختلاف مقبول، علينا أن نحترم صاحبه ورأيه، ونعتبرها وجهة نظر ، ونراه حراكا فكريا يغني المجتمع ، فعندما يأتي شخص لم يملك مفاتح فن ليخالف من تبحر في ذلك الفن، آتيا بآراء لا يقبلها ذلك العلم، ولا تستساغ منطقا ، لا يمكن أن نجعلهما في كفة واحدة، ونعتبرهما وجهتي نظر متقابلتين.
وبالمثال يتضح المقال : لو جاء مثلي ومثلك وألف كتابا في الطب، وجاء من الأدوية ما ( يتوقع ) ويملي عليه ( عقله ) أنها نافعة لأمراض ما، وهو لم يدرس الطب ، ولا يعرف منه إلا ( الأسبرين والبندول) هل تضع آراءه مقابل متبحر في علم الطب؟ وتجعلهما رأيين مختلفين علينا احترام الجميع من باب حرية الفكر ؟!!وهل تشنع على الأطباء حين ينتقدوه أن بلبل على الناس فكرهم وأمرض أجسامهم ؟!!
وكذا في الهندسة والقضاء وغيرهما.
أليس الدين أولى بالاحتراز والصون؟ ألم تأت الشريعة بحفظه بالدرجة الأولى ؟
رابعا : لنأت إلى التربية القرآنية والنبوية ، ألم يحدثك القرآن عن الثلاثة الذين خلفوا "   " ؟ ماذا كان ذنبهم وكيف تم التعامل معهم؟
هل التخلف عن الغزوة أشد خطرا وأعظم ذنبا ممن تطاول على كتاب تعالى، وانبرى مفسرا دون علم في اللغة والقواعد والأصول ، ولم يصل إلى أدنى درجات الرسوخ في العلم؟
هل التخلف أشد خطرا ممن يريد نسف التراث الإسلامي ويتهم العلماء بهجرة ، مرددا ( تراكم روائي ) ( كلام بشري ) ، ( مرويات ظنية )  و... ، ويستهزئ بالصالحين والعلماء؟

وفي الختام أخلص إلى النتائج والتساؤلات الآتية :
أولا : مع إحساننا الظن بالأخ العزيز بدر فإن المقال عبارة عن سيل من الاتهامات للعلماء ومن حولهم وعامة الناس، جميعها يفتقر إلى التوضيح من الكاتب الكريم الدليل والأمثلة الواقعية إذ هي خلاف الأصل كما بينّا
ثانيا : اتجه الكاتب إلى إصلاح من بذلوا حياتهم في الإصلاح، وربما نسي  الذين هم أحق بالإصلاح.
ثالثا : لم يقدم الكاتب أي بديل عن ما اعترض عليه من التفسير والتأويل من قبل العلماء ، بل رآه جعل مهيمنا على النص، فهل يا ترى البديل أن نفسر كلنا القرآن حسبما تمليه أهواؤنا و ( عقولنا )؟
رابعا : إذا كان الأخذ بالمرويات والعمل بالتفسير هجرا للقرآن، فلماذا لا يتكرم علينا المنادون بذلك بمنهج واضح في التعامل مع آي الكتاب، ومع الروايات الحديثية ، ثم يشرعوا في تفسير القرآن آية آية وفق ذلك المنهج الواضح، ويقيّموا الروايات واحدة واحدة ، ليزيحوا ( الغبار ) الحاصل من ( التراكم )، ويستخرجوا للأمة ما يرونه نقيا، ليخدموا الأمة خدمة جلية ، وتكون شهادتهم لله.
 فلا أرى جدوى من الصراخ بوجود مشكلة، و (الزن) المستمر على الناس بانتقاد فاعليها،  مع عدم تشخيصها تشخيصا بينا، وتقديم الحلول الواضحة، والبدائل الناجحة .
وإلا كانوا كمن ينادي بوجود حريق في مكان ما ، أين هو ؟ وما الوسائل المتوفرة لإطفائة ؟ لا جواب !! 
فقد تعب الناس على مدار سنوات، من قراءة مقالات لا يخرجون منها بشيء سوى انتقادات واتهامات، وتظل أذهانهم حائرة في البحث عن الحل، وإن ارتاح بعض أهل الأهواء لما يخط هؤلاء ، فقد أشرنا أن الإنسان ميال لما يكفل له اتباع هواه، ويجعله في راحة من الالتزام والتقيد.

ومسك الختام نصيحة مخلص محب مشفق :
أولا : تقول الحكمة " إذا شئت أن تصدق فاجتنب العجائب " ، فعندما نأت بمثال على الاتباع المبالغ فيه للعلماء الداعي إلى الخوف من النار ، يجب أن لا نخلط بين السنن والواجبات، وبين ( تفاصيل دخول الحمام ) وما يستوجب النار شرعا ، إذ هذا لا يقول به عالم ولا جاهل، وهذا ينقل ظن الناس من الإصلاح – الذي نظن الكاتب يقصده ويرمي إليه – إلى الاستماتة في تلبية حاجة نفسية وعاطفية بالتحامل والتشنجات، إذ لا يلجأ إلى العجائب والافتراضات إلا من فقد المثال المصدق بالدليل والواقع.
ثانيا : القواعد الفقهية والأصول والمقاصد الشرعية ما وضعت عبثا ، بل سهر رجال أفذاذ الليالي الطوال لتقعيدها وتأصيلها، فانأى بكاتب قدير مثل أخي بدر الجهل بها أو تجاهلها ، فعلى سبيل المثال قاعدة " الأمر إذا ضاق اتسع وإذا اتسع ضاق " تقتضي أن ينظر الداعية أو الفقيه أو المفكر إلى حال الناس ، وما هم بحاجة إلى أن يدعو إليه ، فمن العجب أن ندعو إلى التقليل من شأن جهد العلماء والمفسرين في وقت تساهل الناس كثيرا في فتاواهم ورأينا بالشواهد الواقعية التي لا ينكرها أحد ما يؤول إليه الحال عند تهميشها والتقليل من شأنها على الصعيدين الفقهي والتفسيري، بله على الصعيد الاجتماعي.
ثالثا : لنجلس إلى أهل العلم ونبين لهم ما نراه خطأ بالأدلة والبراهين والآثار المترتبة على ذلك الخطا، ولن نجد – بإذن الله – إلا آذانا مصغية، وقلوبا رحيمة ، تعلو على التعالى وتأبى تقديس الذات، فالإصلاح والخير مقصد الجميع – إن شاء الله -.

أرجو أن أكون قد أوضحت ما أشكل ،  وما قصدت إلا الإصلاح ، وما توفيقي إلا بالله.

محمد بن سعيد المسقري
7/4/1434هـ
18/2/2013م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق